فصل: تفسير الآية رقم (166):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (166):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [166].
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ} بدل من: {إِذْ يَرَوْنَ} أي: تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكل ما عبد من دونه تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} من الأتباع، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم، أو يدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال، واعتزلوا عن مخالطتهم، وقابلوهم باللعن. وقرئ الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول، أي: تبرّأ الأتباع من الرؤساء: {وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ} الواو للحال، أي: تبرّأوا في حال رؤيتهم العذاب: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} أي: الوصل التي كانت بينهم، من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، المحابّ، والاتباع، والاستتباع.

.تفسير الآية رقم (167):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [167].
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} حين عاينوا تبرّؤ الرؤساء منهم، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} هناك، ومن عبادتهم، ونعبده تعالى وحده: {كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} اليوم. وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نُهُوا عنه، كما أخبر تعالى عنهم بذلك: {كَذَلِكَ} أي: مثل تلك الإراءة الفظيعة: {يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} ندمات شديدة: {عَلَيْهِمْ} أي: تذهب وتضمحلّ، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] وقال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] الآية، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء} [النور: 39] الآية: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31، 33]...؟ وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81- 82].
وقال الخليل لقومه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]. وقالت الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 41]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6]. وقال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم: 22].

.تفسير الآية رقم (168):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [168].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً} حال أو مفعول، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم: {طَيِّباً} أي: مستطاباً في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول.
وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال: «يا سعد! أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده! إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والرِّبا فالنار أولى به...!»: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها... مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: إنّ كلّ مالٍ منحته عبادي فهو لهم حلال». وفيه: «وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمتْ عليهم ما أحللت لهم». ومما يدخل في خطوات الشيطان: كلّ معصيةٍِ لله، ومنها: النذور في المعاصي كما قاله بعض السلف في الآية.
قال الشعبيّ: نذر رجل ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان!
قال أبو الضحى عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضرعٍ وملحٍ، فجعل يأكل فاعتزل رجلٌ من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم، فقال لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال لا..! قال: فما شأنك؟ قال حرّمت أن آكل ضرعاً أبداً...! فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فاطْعَمْ وكفَّرْ عن يمينك..! رواه ابن أبي حاتم.
وروي أيضاً عن أبي رافع قال: غضبت يوماً على أمرأتي، فقالت: هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية، وكل مملوك لها حرّ إن لم تطلق امرأتك..! فأتيت عبد الله بن عُمَر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان..! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة- وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة- وأتيت عاصماً وابن عمر فقالا مثل ذلك.
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذرٍ في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفّارته كفارة يمين! نقله الإمام ابن كثير الدمشقيّ.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليل للنهي، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50].

.تفسير الآية رقم (169):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [169].
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء} استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيلٌ لفنون شرّه وإفساده. والسُّوء: يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو أفعال القلوب. و{وَالْفَحْشَاء} ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرّم هذا وذاك بغير علمٍ. فمعنى: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به. قال البقاعي: ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه، لطفاً بهم ورحمة لهم، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته، بما أنعم عليهم، بخلقه لهم أولاً، وبجعله ملائماً لهم ثانياً وإباحته لهم ثالثاً، وتحذيره لهم من العدو رابعاً.... إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن...!.
قال الرازي: قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق...! لأنه- وإن كان مقلداً للحق- لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقاً للذم لا ندراجه تحت الذم في هذه الآية.! انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: القول على الله بلا علم يعم القول عليه سبحانه في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 117].! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام. ولما لم يحلّه: هذا حلال. وهذا بيانٌ منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرّمه.
وقال بعض السلف: ليتَّق أحدُكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرّمه، لمجرد التقليد أو بالتأويل.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، أميره بريدة أن ينزل عدوّه إذا حاصرهم، على حكم الله، وقال: «فإنك لا تدري أتصيب حُكْم الله فيهم أم لا....؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك...» فتأملّ، كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه حكماً حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا. ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب. وقال مالك: لم يكن مِنْ أمرِ الناس، ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدركتُ أحداً أقتدي به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام. وما كانوا يجترئون على ذلك. وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسناً.
ولما نهاهم سبحانه عن متابعة العدوّ، ذمّهم بمتابعته، مع أنه عدوٌّ، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال:

.تفسير الآية رقم (170):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [170].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ} على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الرد عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} أي: وجدنا: {عَلَيْهِ آبَاءنَا} أي: من عُبَاْدَة الأصنام والأنداد. فقال مبكّتاً لهم: {أَوَلَوْ} أي: أيتبعون آباءهم ولو: {كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} أي: من الدين: {وَلاَ يَهْتَدُونَ} للصواب إذ جهلوه؟
قال الحراليّ: فيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوّة الدين، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم.
قال الرازي: معنى الآية: إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة. فهم قالوا: لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا. فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} إلى آخره.
ثم قال: تقرير هذا الجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال للمقلّد: هل تعترف بأنّ شرط جوازتقليد الْإِنْسَاْن أن يعلم كونه محقاً أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر، لزم التسلسل،، عن عرفته بالعقل، فذاك كافٍ، فلا حاجة إلى التقليد...! وإن قلتَ: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً... فإذن قد جوّزت تقليده وإن كان مبطلاً..! فإذن أنت- على تقليدك- لا تعلم أنّك محقّ أو مبطل...!
وثانيها: هَبْ أنّ ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء، إلا أنّا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لابد من العدول إلى النظر، فكذا ههنا.
وثالثها: أنك إذا قلّدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعَرَفَته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد، لزم إمّا الدور وإمّا التسلسل. وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدّم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد؛ لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل- مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد- كنت مخالفاً له. فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلاً.
ثم قال الرازي عليه الرحمة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه أقوى دليل، على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أوعلى ما يقوله الغير من غير دليل.
وقال الإمام الراغب: ذمّهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الْإِنْسَاْن من الفكر والروية، وركّب فيه من المعارف، وذلك أن الله ميزّ الْإِنْسَاْن بالفكر ليعرف به الحق من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الفعل، ليتحرى الحقّ والصدق والجميل، ويتجنب أضدادها، وجعل له من نور العقل ما يستغني به. فيدله على معرفة مطلوبه. فلما حثّ الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بيّن حال الكفار في تركهم الرشاد، واتباعهم الآباء والأجداد ليحذّر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الْإِنْسَاْن وحقيقته، ثم قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيهاً على أنه محال اتباع من لاعقل له ولا اهتداء.
إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: {يَعْقِلُونَ} و{يَهْتَدُونَ} وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل: قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود ههنا. والمهتدي قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم، فبيّن أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإنْ كان كثيراً ما يتلازمان، فإنّ العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا مستقيم.
ثم ضرب تعالى للكافرين مثلاً فظيعاً كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل: 60]. فقال: